"هم الكلاب" رحلة التشرد داخل الذات - رشفات سينمائية

السبت، 26 ديسمبر 2015

"هم الكلاب" رحلة التشرد داخل الذات

بقلم: مسعود بوكرن

"هم الكلاب" 
سيناريو وإخراج: هشام العسري
بطولة: حسن بديدا
إنتاج: عليان للإنتاج


    حاز على جائزة أفضل ممثل وجائزة لجنة التحكيم بمهرجان دبي السينمائي، وجائزة لجنة التحكيم للممثل بمهرجان الأقصر للسينما الافريقية، وجائزة النقاد وجائزة أفضل ممثل في كل من مهرجان طنجة ومهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، وجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان السينما الافريقية بقرطبة، ومهرجان السينما بزاكورة، وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان الجزائر للسينما المغاربية، إضافة إلى تنويه خاص من قبل لجنة تحكيم الأفلام الطويلة بالمهرجان اللاتيني الأميركي للفيلم العربي بالأرجنتين.



    "هم الكلاب"، قفزة نوعية وجديدة في السينما المغربية التي ظلت لسنوات عديدة حبيسة نفسها، تأخذ من المشاهد أكثر مما تعطيه.
    ضالة الفنان إيجاده لنفسه، ووجود الفنان داخل كيانه وسط جرعة كافية من الحرية تعني الفن كل الفن، وفيلم "هم الكلاب" واحد من الأعمال التي وجدت نفسها فارتقت سلم التميز، وغيرت وجهة العمل السينمائي النمطي الغارق في التقليد، وكسرت حاجز التعابير الروتينية، وقدمت شكلا جيدا من الأشكال الفنية التي تحسب للَّون السينمائي المغربي، بواقعية معبرة، مازجة بين الرواية والتوثيق.
    في رحلة دامت أزيد من 80 دقيقة عاد بنا المخرج "هشام العسري" إلى الماضي الحاضر، حيث نستذكر الماضي بقوالب الحاضر، وكأننا نستمتع بحَدُّوثة تعانق تفاصيلُها زمكانا غير زمكانها، وتتجانس داحل أنساق مختلفة لحدث واحد، ذلك الحدث المشحون بلغة الإحتجاج، والتمرد على الأوضاع من خلال مصادفة خروج البطل من السجن للثورة الفبرايرية.
    بدأت الحكاية بأصوات متعالية بمختلف الشعارات، منددة بالأوضاع المتفاقمة، ومطالبة للتغيير، وكان الفريق الصحفي المكون من ثلاثة أفراد (العدد ناسب مخيلة السيناريست دون أن تكون له إشارة في العمل) والمكلَّف بتغطية الحدث لفائدة إحدى المنابر الإعلامية في موعد غير مسبوق، حيث صادف في ساحة الإحتجاج بإحدى شوارع "الدار بيضاء" شخصا تائها مجهول الهوية، فاختاره ليكون مادة الصفقة الصحفية غير المعلن عنها.
الرجل المجهول ذو اللون الأسمر الشاحب، والجسد النحيل المنهك، الذي أدى دوره الفنان الكبير "حسن بديدا" باحترافية كبيرة كان من ضحايا انتفاضة الجوع سنة 1984 والمعروفة أيضا بـ"انتفاضة الخبز"، حيث سجن مدة 27 سنة، أي من تاريخ  19/01/1984إلى 20/02/2011،  وهي المدة التي فقد فيها السجين كل شيء، ودفن فيها ماضيا مفصولا تماما عن الحاضر، بما في ذلك اسمه الذي نشأ معه وكبر في أحضانه، ليتضح أن الإسم في مثل هذه البقاع لم يعد لها معنى، ولا تحمل أي دلالة تربطها بصاحبه، فالرجل لا يعرف عن نفسه سوى أنه يُدعى "404" وهو ما كان ينادى به في غياهب السجن، والرقم نفسه له دلالة أخرى لارتباطه بعالم البرمجيات الإلكترونية، حيث يفاجئك الحاسوب برسالة عند حدوث أي خطأ تحمل نفس الرقم، وكأن بطل الفيلم عبارة عن رسالة بعثت خطأ إلى مكان آخر، والغريب في هذه الرسالة أن صاحبها لم يتذكر من محتوى حياته سوى اسم زوجته، وأنه كان زير نساء، وكأن غريزة حفظ النوع هو ما تبقى لديه من رصيد المفقودات، أو هو ما رافقه طيلة فترة الإعتقال ككيان حي يرزق لا معنى له في هذا الكون، ولعل بعض التفاصيل الأخرى التي يتذكرها صاحبنا بين الفينة والأخرى تثير أكثر من سؤال في هذا العمل، والتي تبدو كأنها من هفوات السيناريو، ولا علاقة لها بمحتوى الرسالة المفترضة، كما لا يبدو بعضها واضحا.
    اعتُقل "404" دون سبب، وقضى العمر سجينا دون هوية ولا إسم، وخرج إلى رحابة الكون دون وجهة ولا هدف، سوى أنه خرج من أجل أن يخرج، باحثا عن ماض مليء بالنزوات وتلبية الرغبات، مستنجدا بالحقيقة المرة التي تعتصر قلبه الصغير، ومتمسكا بلحظة يرى فيها الحسم لخطاياه، والمتمثلة في لحظة الاستعطاف وطلب الغفران ممن ظلمهم قبل أن يظلمه التاريخ، زوجته وأولاده، وفي سبيل تحقيق هذه الرغبة، ناضل معه الطاقم الإعلامي الذي تتبع كل مراحل خطواته من البداية إلى النهاية بواسطة كاميرا تنتقل من على أكتاف أفراد الطاقم الثلاث، وهم يتناوبون عليها حتى يتمكنوا من تسجيل جزئيات الحدث، ومن جهة المخرج، حتى يتمكن المشاهد من تتبع أدق تفاصيل الحكاية، حتى والكاميرا تنتقل من كتف إلى كتف.
وصل "404" إلى حبيبته وأم أولاده بعد عناء شديد، فمنحته شيئا مما لم يفارق ذاكرته، بل وذكرته بما تبقى منه عندما قدمت له شهادة وفاته، ليتأكد في النهاية بأن الحياة لها معان متعددة غير المألوفة، وأن وجوده كان مجرد جمجمة للكلاب في نسختها العربية، وأن المتحدثون عن القيم "هم الكلاب"، ولا فرق بينه وبين من يحمل نعشه على كتفه وفي قلبه حرقة ظُلم وقصفة زيتون، ثم يودع زوجته، ويودع ابنه أمام بيته بزغردة مجهولة المصدر، كرابط قوي بين الواقعين المريرين للماضي والحاضر، وعلى إيقاع هذه الزغردة في آخر الفيلم، والتي تصلنا بجدلية احتجاج أحد المحتجين في بدايته، تنتهي مسيرة البطل ومهمة الطاقم الصحفي، ثم تنتهي جولة التمرد. ومن الغريب في النهاية ربط حدث الحركة الفربرايرية بهيئة الإنصاف والمصالحة، في قالب يوحي بمرحلة التأسيس، إذ من المعلوم تاريخيا أن الهيئة تأسست سنة 2004 ، وخروج الحركة كان سنة 2011.    

    كل شيء في "هم الكلاب" غير مألوف، الحياة، الواقع، الرؤية، المعاني، الدلالات، التناول، وبأسلوب جديد بعيد عن التقليد والتراتب خاض المخرج تجربة حية لواقع مؤلم ذهب ضحيته مئات الأفراد دون سبب سوى الدفاع عن الحريات الفردية، وجرفتنا أطوار التجربة مع "404" إلى عالم فسيح كاد أن ينقلنا إلى واقعية "جان رنوار"، و"خالد يوسف"، ومن على شاكلتهما، فنحن أمام عمل فني مبني على خطة عمل واحدة، تُنَقلنا بين عناصر البحث، رغم إزعاجات الكاميرا التي لم تسترح طيلة أطوار الفيلم، حيث لم يترك أي مساحة لاستراحة العين، وأخذها قسطا من التأمل وتجديد الحياة. ولعل هذا ما أراد صاحب التجربة، وهو ما يعنيه بالذات حين فرض على المشاهد لغته الجديدة، وأسلوبه في توزيع الأحداث.

0 التعليقات :

إرسال تعليق