رشفات سينمائية

السبت، 18 يونيو 2016

لجان السينما في المغرب: من التحكيم إلى التحكم

بقلم: محمد اشويكة.



    إن تأمل فعل التحكيم في المهرجانات العالمية يرمينا في متاهة من التداخلات الدلالية التي تجعل مفهومها ملتبسا وجامعا لعدد كبير من التناقضات، فالتحكيم يفيد الحُكم والسيطرة والسلطة والتحكم والقيادة والإدارة والجزم والزعامة، وهي مجالات تتطلب الحصافة والرزانة والخبرة والاتزان والفطنة واليقظة وما سواها.
    وتختلف الرهانات التي يعقدها المنظمون على اللجان من مهرجان إلى آخر، إلاّ أن الهاجس الظاهر والأهم يتمثل في أن إشعاع الأعضاء يسهم في الترويج للمهرجان ويضمن مصداقيته وجديته كما يوضح استراتيجيته.
معايير أيديولوجية
    تظل الرهانات واحدة سواء في المغرب أم في غيره من الدول، إلاّ أن المشرفين على المهرجانات والتظاهرات، وخاصة مدراءها الفنيين، يلعبون دورا حاسما في جلب الأسماء المتميزة ضمن تشكيلة اللجنة التي تعكس بالضرورة ثقافة واطلاع أصحاب المهرجان، فيكفي أن تعرف الأسماء لتستقرئ البقية.
    وبما أن المغرب بلد المهرجانات والتظاهرات والملتقيات السينمائية، فإن بعض الأمور قد باتت تحتاج إلى مراجعة جذرية بالنظر إلى تفاوت خبرات المنظمين، وعدم قدرة بعض المدراء على استقطاب الأسماء الوازنة في الداخل والخارج، ومركزة كل الأدوار في يد رؤساء المهرجانات الذين يجولون بفضل دعم الدولة مهرجانات الشرق والغرب، ولا يجلبون في الأخير، إلاّ نزرا قليلا من الأفلام الجديدة أو الأسماء المهمة، فليست العبرة بالسفر، بل بالظفر بسبق يمنح المهرجان قدرا من الاحترافية، ويحقق له التميز والتفرد.
    غالبا ما يخضع اختيار أعضاء لجان التحكيم لمعايير تفسر التوجه الفني والأيديولوجي للمهرجان، فلا يمكن أن تجد تشكيلة من الحكام لا تجمعهم صلات معينة، وإن حصل هذا فالمشكلة تعود إلى المدير الفني أو رئيس المهرجان، وتكشف بالملموس الحلول الترقيعية التي تعلن عن نفسها دونما حاجة إلى الاستفسار حول مبررات الاختيار.
    ويحدث أن نرى في المغرب بعض الأشياء الشبيهة بحوادث السير الفظيعة، كأن تجد رئيسا للجنة التحكيم أقل قيمة من الأعضاء، وأن تتساوى الخبرات والعطاءات والتجارب، والأنكى من هذا أن تكون لجنة التحكيم وازنة في مقابل “أفلام” لا يمكن أن تشكل أرضية خصبة للنقاش والتداول.
    تختلف جنسيات لجان تحكيم المهرجانات المغربية حسب ميزانية المهرجانات وموضوعاتها، فإن كانت بعض المهرجانات الدولية تحافظ على تمثيلية المغاربة، ولو من باب البروتوكول أو التبعية الثقافية، كما يحدث في مهرجان مراكش، مثلا، أو استدعاء بعض المشاركين فيها بغرض تبادل الخدمات والزيارات والدعوات بطريقة مكشوفة، فإن جل المهرجانات تستعين بخدمات المغاربة بالرغم من أن بعضها تعتبر المشاركة فيها تشريفا، وليست خدمة فنية والتزاما أدبيا يستحق التعويض، خاصة إذا طالت مدة المهرجان.
    وقد نلاحظ أن بعض الأجانب من جنسيات غربية وأخرى عربية تستعين بهم بعض المهرجانات لإضفاء طابع الدولية على لجانها، مع العلم أن بعضهم لا يتوفر على خبرة ذات مرجعية في المجال.
غياب الاحترافية
    تتباين الروافد الثقافية، والمرجعيات السينمائية، لبعض المشاركين في اللجان من المغاربة، وغيرهم، فلا يعقل أن يحكم من لم يقدم منجزا مرجعيا في مجاله على الآخرين، لأن عملية تقييم الأفلام تتطلب مهارات وخبرات وكفاءات تجمع بين الفني والتقني والأدبي والعلمي والأكاديمي، وهي ليست عفوية أو تلقائية، لأن المُحَكِّم سيتساوى مع الجمهور العادي، وسيكرس منطق الارتجال على حساب النظام، والهواية ضدا على الاحترافية. فقد صار من المعروف أن بعض المهرجانات التي تشرف عليها الإدارة بشكل مباشر تملأ اللجنة بالأسماء، وتخلق التناقض كي تتحكم في الجميع وتعلن عن الجوائز التي تريد إلى درجة أن جوائز المهرجان الوطني للفيلم لم تعد لغالبيتها أي قيمة تذكر.
    وترجع أسباب التحكم في لجان التحكيم إلى ضعف شخصية المشاركين فيها الذين لم يستطيعوا الاستقالة منها، ولم تكن لهم الجرأة على فضح ما يمر داخل الكواليس من ضغوط وانتقامات وإقصاءات، فضلا عن أن بعض مدراء المهرجانات يشكلون لجانا على المقاس كي يتسنى لهم الاستبداد بها، ويطلبون من الأعضاء الموالين لهم منح بعض الجوائز لأصدقائهم أو لأسباب جهوية أو أيديولوجية معينة، وإن حدث أن وجد عضو نزيه فقد يجد نفسه محاصرا داخل دائرة التصويت، والخضوع للأغلبية المُسَيَّرَة التي تسوّق للعبة الديمقراطية واختلاف الاختيارات والأذواق.
    تساهم هذه الممارسات التي تتجاوز أخلاقيات التحكيم في تمييع الأدوار المنوطة بلجان التحكيم، وتقوض مصداقية النزهاء والمحترفين، وذوي الذمم النظيفة والعفيفة، فغالبا ما يجهل بعض الأعضاء غير المسؤولين أن اختياراتهم غير الموضوعية تدمر المبدعين الحقيقيين، وتفسد صورة البلد، وتضرب نضال السينمائيين، فقد أضحت الشواهد التقديرية والدروع والتذكارات في متناول الجميع، ولم يتسلم بعض الفائزين قيمة جوائزهم المالية، كما تمت برمجة بعض الأفلام دون علم أصحابها، وتلك ممارسات تجعل الجميع في مهب الريح، وتصيب في مقتل ما راكمته بعض المهرجانات الاحترافية من مصداقية.
    يستعصي فهم التهافت على إدراج المسابقات في بعض المهرجانات والملتقيات السينمائية المغربية، فقد تقتضي الأحوال التدرج، والانتقال من درجة إلى أخرى، فلا يمكن أن تصير لكل مهرجان مسابقات، وهو لم يراكم بعد الخبرة والإشعاع الكافيين؛ إذ من المفروض أن يخدم التعدد الجانب الثقافي، ويخدم السينمائيين في وصول أعمالهم إلى الجماهير التي لا تتوفر مدنها على قاعات سينمائية، فالدولة تدعم إنتاج الأفلام لتصل إلى الناس، وتسند المهرجانات لتشكل آلية لإيصال الأعمال السينمائية إلى كل المناطق بالبلاد، وهي مناسبة للتواصل مع مختلف الفاعلين في صناعتها كي تعم الفائدة، وبالتالي يتم الرهان على الجانب الثقافي قبل الزج ببعض الأسماء في لجان تحكيم لا تراعي مسابقاتها أدنى شروط التنافس.
    يرتكز اختيار لجان التحكيم على ما يمكن أن يتميز به العضو من مهارات في مجاله، وعلى قدرته على التواصل مع بقية الأفراد الآخرين، وعلى احترامه لأخلاقيات التحكيم والتكتم على أسرار اللجنة، وهي نقاط حساسة لا يدرك البعض قيمتها في مثل هذه المناسبات، فغالبا ما تفقد المسابقات جديتها بسبب تهور وعدم مسؤولية بعض أعضائها الذين يفشون أسرار مداولاتها، ويسربون نتائجها، ولا يحترمون آراء زملائهم الآخرين، مما يتسبب في بعض التطاحنات والملاسنات والخصومات قبل إعلان النتائج، أو مباشرة بعدها.

المصدر: العرب.

الثلاثاء، 31 مايو 2016

الثالوث المدنس في السينما المغربية

بقلم: د. بنسالم حميش







   عطفا على مقالتي السابقة "والتدهور الثقافي أيضا"، هي ذي أخرى تكشف عن وجه مخصوص من التدهور ذاته في قطاع السينما.
   عرفت هرطقة عيوش الأب حول الدارجة (دارجته) فشلا ذريعا، لما أن شطبها المجلس الأعلى من مداولاته وتقريره؛ وكان لمن وقفوا ضدها، وصاحب هذه السطور منهم، دور أكيد في ما آلت إليه.
   لكن ما إن تخلصنا منها حتى أحدث عيوش الإبن هرطقة أخرى في فيلمه الأخير، تعنّيت مشاهدته على اليوتوب من باب ولعي بالسينما وممارستي كتابة السيناريو، فرأيت أن هذا الوليد الجديد، علاوة على أحادية البعد والمعالجة فيه، وإساءته إلى بلد عربي مذكور بالاسم، وتقويل "السعودي" لشتم في الفلسطينيين، وإظهار شابات في أوضاع حيوانية مهينة: واحدة تحبو وخلفها رجل كأنه يقودها بسوطه؛ قزم يطبطب على مؤخرة شابة ثانية، إلخ، علاوة على كل هذا وسواه فإن ذاك الوليد بالغٌ درجة الصفر في الإبداع تصورا ولغةً وذائقة فنية وحتى معرفةً بالموضوع نفسه.
   أما قرار منع الفيلم من العرض، فهذا ما سيسخره صاحبه كورقة لتسويقه في أوروبا والتبرج بمظهر ضحية الرقابة والقمع. لكن هذه الحيلة، بعد أن نفعته في ماضي الأيام، فإنها الآن باخت ولن تنطلي مجددا على الأوساط السينمائية الأجنبية الجادة، هذا ولو عاد الوالد إلى تحريك آلته الإشهارية المتنفذة وشبكة علائقه الواسعة.
   أما داخل المغرب، فحتى لو لم يصدر قرار المنع ذاك، فإني لا أرى موزعا أو ربّ قاعة يقبل بترويج ذلك المسخ، بل إن ممثلين لأهل الفن السابع استبشعوه، منهم مثلا الفنانة الموهوبة السيدة سهام أسيف التي اعترفت بالمناسبة أنها كانت دائما ترفض عروض لعب أدوار العري والخلاعة، وتأكدت من حسها الأخلاقي حين أدت بمهنية عالية دورا في فيلم تلفزي كنت وضعت له السيناريو.
عودا إلى الموضوع كما عنونته أقول:
   تشكو السينما المغربية من شروخٍ ومعاطبَ شتى يقيسها العارفون برسوخها وتواترها. ولن أتحدث هنا عن ضعف الإقبال عليها أو تناقص قاعات العروض على امتداد البلاد، ولا عن غرابة إلحاق قطاع الفن السابع بوزارة الإتصال (وهذا من عقابيل سنوات الرصاص)، ولا عن ضحالة تكوين أغلب مخرجينا وضيق أفقهم الثقافي حتى سينمائيا، لا ولا عن تملك كل واحد منهم لشركته الإنتاجية واستفراده بكتابة السيناريو والحوار، وحتى عند البعض بلعب دور في أفلامهم، وغير ذلك؛ لا، بل إنها مسألة حدث لي أن رصدتها رصدا أيام شغلت رئاسة صندوق دعم الإنتاج السينمائي المغربي مدةَ عامين (2007-2008)، تتعلق بغلبة ما قد أسميه الثالوث الموضوعاتي المدنّس من طرف من سأذكرهم، وهو الجنس بكل فروعه، المخدرات والتطرف الديني، وما يحوم حوله من تنويعات، كالهجرة السرية والحب الخائب وشوية سياسة ، وأيضا من مقبِّلات وتوابلَ تتضافر كلها وتتناسل لتصوير المغرب كما لو أنه من أكبر العواصم العالمية لتلكم الظواهر والإنحرافات.
وتبيّن لي إذذاك سُخف تسويغاتٍ وتبريراتٍ وبوارها، من صنف: "الجمهور عايز كذا" أو "احنا ماشيين مع الأذواق"؛ إلا أن عزوف الجمهور وحتى موزعينا وأرباب القاعات عموما عن أفلام مخرجينا إجمالا ينقض ذلك تماما ويبطله ليترك المجال واسعا للتفسير الأوحدِ الدامغ، وهو ذو شيقين: إما طمع أولئك المخرجين في الترويج لنتاجهم خارج المغرب بترغيب موزعين أجانب وتملقهم؛ وإما تلهفهم على جني إسهامات تمويلية (وهذا هو الأغلب) من منتجين فرنسيين وفرنكوفونيين موعودة قبل الإخراج أو خلاله.
   وما كنت لأقف عند هذا الرصد لولا شهادات بعض مخرجينا النزهاء -وهم قلة-، ومنهم السيدة المقتدرة فريدة بليزيد، باحوا لي باتصالات جرت معهم مرات من طرف أولئك المنتجين، تعبر عن استعدادهم للمساهمة جزئيا أو كليا في تمويل أعمال سينمائية، شريطة أن يسايروا ذلك الثالوث، الذي هو عندهم مقدس ويطاوعوه. وبالطبع كانوا يرفضون بحجة نبيلة هي أنهم لا يمارسون فنهم السينمائي تحت الطلبيات والتعليمات.
   وما عدا هؤلاء النزهاء (ومنهم أيضا الماهد سهيل بن بركة الذي اعتزل السينما وجيلالي فرحاتي وحكيم بلعباس) يظل الآخرون يتسابقون إلى دخول بيت الطاعة، ضاربين أرقاما قياسية في الممالأة والزلفى لجلب ما استطاعوه من الجهات الأجنبية ومن أخرى مشبوهة، مع الإبقاء على طلب الدعم من الصندوق المغربي من دون عفة وخجل.
   حاولتُ وقتذاك أن أحجِّم الظاهرة وأقلل من أضرارها، كما تعبت -كم تعبت!- في جعل اللغة العربية وعاميتها لغة كتابة السيناريات ومداولات لجنة الدعم. وقد أكون توفقت قدر الإمكان، لكن من دون أي ضمانة في استمرارية الموقف المصحِّح لدى من أتوا بعدي.
   وقرين تلك الظاهرة تأكد لي خلال مخالطتي للوسط السينمائي أيام اشتغالي بكتابة سيناريات لثلاثة أفلام تليفزيونية للقناة الثانية مع المخرج إسماعيل (حصل منها "علال القلدة" على الجائزة الأولى في مهرجان بالقاهرة سنة 2004)، وكذلك أثناء متابعتي لمراحل في التصوير وحضوري بعض المهرجانات وعضويتي في لجن تحكيم.
   بالمثال قد يتضح المقال: لعل أمهر أولئك المخرجين المهرولين إلى ما ذكرت هو الغني عن التعريف، نبيل عيوش، إذ صار أكثر فأكثر قدوة لمجايليه في المهنة وسواهم (كليلى المراكشي، لقطع، لخماري)، حتى قبل أن يقدم على تكييف وأفلمة رواية عنوانها "نجوم سيدي مومن" لماحي بنبين، وهو الحي الصفيحي الفقير بالدار البيضاء الذي أنجب شبابا منحرفين، انخرطوا في عمليات إرهابية شنيعة، هزت فندقا وأمكنة بالدار البيضاء في 2003، وخلفت العديد من القتلى والجرحى؛ لكنَّ المخرج هذا استبدل ذلك العنوان الأصلي بآخر يُرضي رعاته الأجانب، وهو "يا خيل الله"، مصورا أولئك الشباب الجانحين أحصنةً يمتطي الإله صهواتها، ويحرضهم على أعمالهم الإرهابية، جهادا في سبيله وتقربا إليه... أيّ أميّة أوغل من هذا وأبشع!.
   ويستمر مخرجنا على نهجه وديدنه، إذ آخر ما أضافه إلى بالماريس أعماله، كما قدمنا، يرجعنا إلى أحد فروع الجنس الماثل هذه المرة في الدعارة من خلال عرض جوانب من حياة مومسات مغربيات، وبأسلوب فج ولغة ساقطة. وقد أعطاه، كما هي عادة مخرجين آخرين في التحذلق المصطلحي اسما بالأنجليزية Much loved (وبالدارجة "الزين اللي فيك").
   ولا ريب أن المخرج سيلقي وراء ظهره بتلكم الشابات الشقيات اللواتي يحترفن البغاء وليس التمثيل، ما عدا واحدة فاشلة، لا حماية لهن من السيدا ولا تغطية صحية ولا حياة عائلية؛ ولا شيء من هذه المآسي يهم المخرج الذي يكتفي بتعويضهن عن أدوارهن المهنية بشوية فلوس، كما فعل مع أطفال فيلمه الأسبق "علي زاوا"، الذي عاد "بطله" المسكين إلى انحرافه وتشرده.
   ومعنى هذا أن موضوعات ذلك الثالوث ومشتقاته، إنما يدمن عليها محترفوها سينمائيا بقصد مبيت، هو النزوع الجامح إلى استغلالها والتربح بها كحكرة تجارية قائمة أساسا على إثارة الحواس والنزوات البهيمية من العري والكلام الحضيضي، مثلها مثل الأشرطة البورنوغرافية المتخصصة، مع فارق مهم هو أن هاته لا تُحدد غالبا بالتسمية والتعيين بلدان تصويرها، خلافا لما دأب عليه أصحاب تلك، أي إعلان اسم المغرب من خلال إحدى حواضره الكبرى (مراكش، الدار البيضاء، طنجة...). وقد تفوق في هذا وبرز صاحب الفيلم المذكور بجولاته وصولاته الحادةِ المتواترة.
   إن انتفاضة مواقع وشبكات اجتماعية ضد "الزين اللي فيك"، وتنسحب أيضا على فيلمين سابقين "لحظة ظلام" و"ما تريده لولا"، محقة في ما ذهبت إليه حين وصفته بالرداءة والنتانة شكلا ومضمونا.
أما المقاطع الباعثة على التقزز بل القيء التي عرضتها، فلا ينفع في تبرير صاحبها بكونها إنما سُربت أو اجتزئت، بل هي ما عزز به طلب اعتماد الفيلم من طرف لجنة كان على هامش المهرجان، أي خارج المنافسة، وهذا في حد ذاته حدث غير ذي بال؛ وأما تسويغ الفيلم من حيث إنه يصور الواقع (هذ الشي كاين، حسب تعبير أزلامه)، فإن قبوله قد يهيئ بالتماثل -وهذا هو سؤال الأسئلة- تصوير مشاهد في ممارسة الجنس المثلي والجنس الجماعي والبيدوفيليا أو لـِمَ لا نكاح المحارم، وذلك بدعوى أنها واقع، ثم السعي إلى عرضها على الناس في القاعات المظلمة.
   وبهذا يكون المخرجون من هذا الصنف والطينة يخلطون خلطا شنيعا ما بين حرية التعبير وحرية العبث والتخريب، ولا يقيمون في منظومتهم الذهنية المختلة أيَّ وزن واعتبار لما نجمع على تسميته بحس المسؤولية وقيم المجتمع وأساسياته، التي إذا ما مست بسوء بالغ، فلا غرو أن يثير هذا السوء ردود أفعال مشمئزة مستنكرة. وبهذا الصدد ينتظر من ناشطات الحركة النسائية أن يعبرن عن موقفهن من إهانة المرأة المغربية عن قصد وسبق إصرار، وذلك بتحويلها إلى بضاعة مبتذلة وبائعة لجسمها وكرامتها على نحو يدوس أبسط حقوقها...
   إن السينمائيين عموما في بلادنا تعوزهم معرفة تاريخها وتكوينها الإجتماعي وثقافتها، كما أنهم يعادون لغتها من فرط ما يجهلونها. الفرنسية، ولو وسطى أو مهلهلة، هي قرة أعينهم، أميرتهم وآمرتهم، مع تصريف الحوار بعامية مغربية هجينة مهترئة. وتنتج عن ذلك أفلام سريعة الطبخ والعرض، سرعان ما تتلاشى ويطويها النسيان. هكذا حالهم، حتى إذا تمكن بعضهم من المشاركة في مهرجانات عالمية، ارتدت إليهم صور صغرهم وضآلتهم، ولكنهم لا يتدبرون ولا يعتبرون. وهكذا يظلون على مرِّ السنين من المدجَّنين المستلبين حتى النخاع، عبيدي الهيمنات الطاغية ومن مطبعي التبعيات الذيليةِ الإرادية العقيمة.


المصدر: هيسبريس

الأربعاء، 18 مايو 2016

جدلية الصراع في الفيلم التاريخي "للا تاوعلات"

بقلم: عبد الرحيم الصالحي



   يندرج فيلم "للا تاوعلات" للمخرج "مسعود بوكرن" ضمن خانة الأفلام التاريخية الدينية، ويعتبر أول فيلم أمازيغي جمع بين تيمتي التاريخ والدين، هذا إذا استثنينا الفيلم التلفزي المدعم "أخي طارق" لمخرجه عبد الله العبدلاوي.
   " للا تاعلات" أو " للا تاوعلات" كما يحلوا لمريديها أن يسموها، قصة حقيقية مقتبسة من عبق التاريخ الأمازيغي والمغربي عموما، حبكها مخرجها وكاتب السيناريو "مسعود بوكرن" في قالب درامي فني ممزوج باللغة السردية الواصفة لعوالم استعصت عليه لطابعها الفانتازي والميتافيزيقي، باعتبار البركات والمواقف التي عُرفت بها الشخصية البطلة في زمانها.
    استطاع المخرج أن يحبك قصة شخصية مأثور عليها زهدها وولعها وتقواها وشدة إيمانها بالله عز وجل، عبر متتاليات من الأحداث المندمجة بعضها ببعض، والمتشابكة في ما بينها من خلال صراعات ثنائية تارة، وأخرى ثلاثية ليقربنا من عالمها، بعيدا عن التصنيع الفنتازي لها. هي مقاربة تمتح من التاريخ، والدارس للتاريخ يعلم يقينا أن المشتغل على هذا النوع من التيمات يفتح نافذة واسعة للنقد، ويحيط نفسه بعدة تساؤلات، منها السؤال البديهي: ما مدى مصداقية وملاءمة قصة الفيلم للوقائع الحقيقية التي توارثتها الأجيال؟، أو ماهي مصادر السيناريست المعتمدة؟، علما أن ما كتب عن "تاعلات" تاريخيا لا وجود له عن المستوى التوثيقي كما صرح المخرج نفسه في إحدى لقاءاته الإذاعية، لتبقى الرواية الشفوية هي سيدة الموقف، هذا المجال سنتركه لذوي الإختصاص.
تيمة الصراع
    تنطبع تيمة الصراع داخل الفيلم لتشكل النمط المتتالي والمستمر عبر الأحداث، وتصور عالم "للا تاعلات" من خلال صراعات ثنائية، يطبعها الكره والحقد والرغبة في الإمتلاك والتملك، من خلال الشخصيات الفيلمية، ونخص بالذكر العلاقة (الصراع الرئيس بين "أمغار"  و"فضيلة") التي تتشكل من خلالها الرغبة الجامحة لأمغار (رمز السلطة) في حبه للتملك والقوة االجاه، باعتبار زوجها الغائب عن الديار لسنوات، وامتلاكها لأموال لا تجد مفتاحها سوى عن طريق "أمغار" الطامع في استغلالها والزواج منها لاحتواء الإثنين، إلا أن تودده المدفون لها يقابَل بكثير من الرفض الصارخ، والرغبة في الخلاص من طرف "فضيلة"، هذه الأخيرة التي استسلمت للأمر الواقع، وعبرت عن رفضها لتجاوزات الرمز السلطوي برحيلها عن القرية.
    يخوض "أمغار" صراعات متعددة في القبيلة (إيالته الحكمية) عبر قناة السلطة بمعية خادمة الماكر، ووسيلته في ارتكاب الجرائم، يتجلى ذلك من خلال صراعه مع الفقيه (سيدي الطاهر)، الشخصية المتزنة، والتي تحقق النقطة الوسطية والتوازن داخل الفيلم، يتجلى هذا الصراع من خلال ثبات الفقيه على الحق، وعدم الإرتكان إلى "أمغار"، مما شكل نقطة القطيعة بينهما، وعدم الدخول ضمن دائرة الائتمان بينهما، هو صراع غير نمطي لكون أمغار غالبا ما يؤثر على السلطة الدينية من خلال محاولات إغراء وإحتواء الفقيه الشيء الذي لم يتحقق، وأصبح بؤرة النزاع بين الطرفين.
    انخرط " أمغار " في صراع مع "للا تاعلات" التي يكن لها كرها شديدا لتمردها عليه، وخروجها عن منطقته السلطوية، والتي واجهت تجاوزاته بالعمل على تمريغ سلطته في التراب، بدفاعها المستميت عن الحق ولو كان على حسابها. إن الرغبة الجامحة لأمغار في التخلص من بطلة الفيلم كقوة دينية حاضرة مشكلة للإطار الزمني، وصلت في أقصى درجاتها حد الرغبة في القتل، لتحقيق الخلاص النفسي والروحي، إلا أنه لا ينفك أن يستسلم بدوره في النهاية لما اعتقد أنه مجرد عاصفة موسمية، وهنا نرى المخرخ لا يزال متمسكا بفكرة سَبَق وأن عالجها في عمله الأخير، وهي أن الزمن كفيل بالإنتقام، ورد الإعتبار للمظلومين.
   يتعدد الصراع داخل الفيلم، ويتفنن في حبك الشخصيات لينتقل من صراع التملك والقوة والرغبة في الإحتواء المطبوع بكثير من الأنانية وحب الذات، إلى صراع تغلفه الغيره والحب الأعمى، من خلال المواجهات القائمة بين الزوجة الثانية لـ"بوزكري" (زوج تاعلات)، وبين " تاعلات " البطلة، هنا يتجسد حب المرأة السادي لزوجها، ونبذ كل مقومات التعايش مع الضرة التي استنكفت الانخراط في هذا الصراع، وتعاملت معه بكثيرمن الحكمة والعقلانية، منطلقة من فهمها الصوفي للحياة، في الوقت الذي انحاز فيه "بوزكري" نحو الضرة، وترك الصراع قائما أمام عينيه، متلذذا ثارة، وتارة محايدا ومتتبعا سلبيا لوقائع الأحداث.
    تتطور الأحداث بشكل تراتبي بين "تاعلات" وزوجها وضرتها، لتبدو فيه البطلة محققة التوازن العائلي، نزولا عند رغبة زوجها الراغب في الحصول على الأولاد، وهو ما جعل الضرة تفسح له المجال في التعدد، ومع ذلك أذاقت الويلات للزائرة الجديدة التي لم يصدر منها أي رد معاكس، سوى الدعاء لها بالهداية ، متمسكة بما كان يقابل به الرسول صلى الله عليه وسلم تصرفات عشيرته بقوله: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
   تظهر شخصية "بوزكري" سلبية إلى حد ما، خصوصا في تعامله مع البطلة، شخصية تشوبها حالة التذمر، حائرة، تائهة ومتذبذبة بين الضرتين، وضعف بنيته الشخوصية جعله يظهر بشكل سلبي، ولا يحقق أية غاية ذكورية سوى أنه زوج، انتهت حاله وحال زوجته الثانية بالندم والتحسر على ما أقدما عليه تجاه "تاعلات"، ويتجلى ذلك من خلال رغبتهما الجامحة في الإعتذار لها، خصوصا بعد ما أكد فقهاء وعلماء عصرها ولايتها.
  الصراع والرمز
     للصراع آفاق متعددة داخل الفيلم، يتشكل ملمحا ظاهرا باعتباره التيمة الطاغية، ويتخذ أبعادا سيكولوجية، وأخرى بنيوية وإديولوجية،  بالرغم من التوحد الظاهر في العقيدة. "تاعلات" الدالة على الخير والإيمان، و"توشكا" المشعوذة المجسدة لكل معالم الشر داخل المظومة المجتمعية، هذه الأخيرة التي نادرا ما تظهر، إلا أنها حاضرة رمزيا بقوة، وتفرض سلتطها داخل القبيلة من خلال طبيعة مريديها ووضعيتهم الإجتماعية، خصوصا "أمغار" الذي يعتبر أهم زبنائها، الحامل لدلالة واضحة تبرز السلطة التقديرية والتشريعية، والتي تبدو عليها سمة العلاقات الصورية، مما جعلها تمنح المتحكم والمسير لمجرياتها صفة باهتة يظهر عليها الضعف الذي يقابل القوة، كما تبدو السلطة العليا ظاهرة بيد "توشكا" باعتبارها القوة القاهرة للسلطة المركزية في صورة إيحائية رمزية أخرى، تكشف عن أنواع الصراعات التي بنيت عليه مادة الفيلم الأساسية.
     أما الطرف الثاني في هذا الصراع فهو متمثل في شخصية "تاعلات" البطلة، شخصية متكاملة ، دالة على الخير كله ، والحكمة ، تتصف بصفات الزهاد والوراع والثقاة ، تتصارع في حرب باردة مع "توشكا " ، أعتبر شخصيا هذا الصراع بين الشخصيتين الحاملتين لأبعاد ودلالات رمزية لم يأخذ طابع المباشرة والمواجهة ، صراع مألوف داخل المجتمعات القروية ، حيث يرتكن الجميع لأحكام الفقهاء والشيوخ بتعليمات من المشعودين والدجالين في نفاق مجتمعي ينخرط فيه أغلب الناس طواعية وكأنه الواقع الحقيقي . لم ينخرط المخرج أو السيناريست في دهاليز هذه اللعبة ، بل باعد إلي حد كبير بين الشخصيتين بقوة في الفيلم ولم يجعل بينهما حوارا مباشرا، ولهذا البعد دلالته الخاصة، وظل الصراع قائما بينهما من خلال علاقات كل منهما بالمريدين، أجد في هذا الطرح نوعا من التعالي من طرف المخرج في العلاقة بينهما، خصوصا وأن الفيلم يمتح من الدين الذي يحارب المعتقدات والمشعوذين والمبتدعين.
  صراع "توشكا " و "تاعلات" ظل متقزما، ولم يأخد الحيز الكبير في الفيلم، بالرغم من حضور الشخصيتين بقوة. صراع لم تكتب له نهاية، وانكسر مع توالي الأحداث تدريجيا، حتى أننا لم نحس به، خصوصا أن المخرج ركز في الأخير على الحالة النفسية للبطلة لحظة الإحتضار.
 إن الباحث في التاريخ يدرك يقينا أن الولية الصالحة "تاعلات" مأثور عليها أقاويل يعجز القلب عن تصديقها، وما يزكي ذلك أن عددا من الفقهاء والشيوخ والعلماء المغاربة أكدوا حضورها الولاياتي، واعتبروها ولية صالحة زاهدة متعبدة،  ما يضفي عليها مصداقية الأولياء، والإشتغال على مثل هذه المواضيع المتسمة بالغيبيات والفنتازيات أخضع المخرج إلى إكثارالسرد والوصف والحكي المصبوغ بالتخيل لإيصال عوالم الولية للمتلقي، وفي ذلك قتل لملكة التحليل لدى المشاهد، وبالتالي تجعل الفيلم يميل إلي رتابة القول مقابل قوة الصورة التي تعتمد عليها السينما. 



لمشاهدة فيلم للا تاوعلات كاملا

الثلاثاء، 10 مايو 2016

السلطة الرمزية للصورة السينمائية

بقلم: بوجمعة أكثيري

   

   تعد تكنولوجية الصورة والإعلام، إحدى ركائز التفوق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي... في المجتمعات الحديثة، نظرًا لما لها من قدرة جبارة على الإقناع والتأثير والتوجيه، بل والتحكم في القيم، وتغيير الأذواق، والتمثلات والنظرة للأمور وللعالم؛ ما يفسر أن تكنولوجيا الصورة الحديثة بشتى تلاوينها (السينما، التلفزة، الإنترنيت...)، غذت سلطة فعالة في أيدي الدول الكبرى، والشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر على الصناعة الاتصالية. 
   فما هي يا ترى، تجليات هذه السلطة؟
   تستمد الصورة سلطانها مما نستثمره فيها من رغبات، وتقوم مقام رغباتنا في تحويل العالم، إن للصورة قوة تأثيرية تفوق كل التوقعات1، سيما وأنها توظف مجموعة من التقنيات (السيناريو، الحوار، الإخراج، المونتاج، الإنارة، والماكياج، الإكسسوارات، المؤثرات الصوتية...)، بغية بسط سلطانها على المشاهد؛ فرهان هذا الاختراع البصري، التحكم في زمام الأمور، وتكريس سلطته على الفضاء العام والخاص، من خلال:
- قدرة الصورة السينمائية على إقحام المشاهد - الذي يفتقد للحس النقدي والتحليلي للخطاب السينمائي- في عوالم جديدة، قد تغير من آرائه وقيمه ونظرته للأمور والعالم، وتجعله "إنسانًا خاضعًا" لا ينفك من قيودها التي سحرته، وأسرته، وخلخلت بناه النفسية والاجتماعية...إلخ.
- قدرة الخطاب السينمائي المرئي، على تشكيل سنن ذهني عند المشاهد، يربط الواقعي بالمتخيل؛ مما يحدث فوضى كبرى بين العالمين لديه، وفي الوقت ذاته يصعب من إمكانية تكيفه مع واقعه المعيش.
   لقد أحدثت الصورة- الآلة ارتجاجًا في النظام البصري المعاصر كما يقول رجيس دوبري2 (R. Debary)، وغيرت كيفية إدراكنا، وتمثلانا للعالم الذي نتنفس هواه. في هذا الشأن، يقول الكاتب الأمريكي إدوارد برنيز المتخصص في علم السلوكيات البشرية في كتابه "الدعاية": إن السينما من أعظم الوسائل قدرة على تشكيل الوعي الباطني للشعوب العالم؛ إن لم نقل أنجعها على الإطلاق في غزو أفكارهم والسيطرة على آرائهم؛ إن السينما بإمكانها أن توحد الأفكار والعادات لأي أمة من الأمم3؛ بما مفاده: أن هذه السينما ليست مجرد صور مجانية -  فرجوية قصدها الإمتاع والمؤانسة، كما يعتقد البعض جهلاً- تعمل على بعد تزييني أو هامشي، بل هي حصان طروادة تتسرب منه الوصاية الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية...، على عقول الملايين من المشاهدين جراء غياب فكر نقدي مضاد وعقلاني، يقيهم من شر التغليط والتمرير الممارس عليهم من طرفها بدهاء ماكر. فهذه الصناعة السينمائية في رأي "برنيز" لها سلطة عظيمة على برمجة وتكييف العقول لإيجاد واقع بديل، لواقع موجود، يؤدي دورًا في إلغاء الذات والسيطرة على الأهواء، وضرب القيم والثقافات الوطنية للشعوب والترويج للعولمة الثقافية المبينة على الإخضاع والغزو الثقافي.
   وبهذا المعنى، تغدو صناعة الصورة السينمائية، أداة ترويض، تسعى إلى أن تجعل منا أسرى موضوعاتها وتصوراتها التي يؤسسها منظروها؛ إضافة، إلى إنتاج كل تفاصيل حياتنا اليومية، بل ونصير أبواقها الآدمية؛ بمعنى أوضح تريد أن تتملكنا، وأن تتكلمنا  كما يقول هيدجر- عوض أن نتكلمها. تريد فصلنا عن جاذبية العقل والقيم، والدين... تريد إلباسنا ثوب الآخر، بدعوة الترفيه؛ يقول فوفوناركيس (Vauvenargues) لقد أعلن شيشرون (Chesteron) شكلاً خفيًا للسلطة4، تحت قناع من الوداعة، فالطاغية المستبد ليس الرجل الذي يحكم عبر الرعب، بل هو الذي يحكم بالمحبة ويلعب كمن يعزف قيثارة.
   فدلالة صورها تبطن غير ما تظهر، وتظهر خلاف ما تبطن، كأنها تتآمر علينا؛ الأمر الذي يؤكد، أن الصورة السينمائية تؤسس لسلطة من نوع آخر، سلطة الوسيط الأكثر رواجًا من طرف الجميع؛ سلطتها سلمية لا تستعين بقنابل نووية، أو دبابات، بقدر ما تستعين بالخطاب الرمزي المؤسس على تصورات ذهنية صاغت مبادئ السيطرة ولغتها؛ فيكفي مثلاً أن تترسخ صورة عن جماعة أو قضية، أو حدث، حتى تنتشر في الأحاسيس العميقة وتؤثر بشكل بالغ في العمل السلوكي5إن  مفعول صور الأفلام ليس ظاهرة حديثة العهد، ففي الماضي، ساعدت صور الأفلام التي تحط من قدر الآسيويين في نشر المشاعر المعادية لهم في الغرب قبل وأثناء بعد الحرب العالمية الثانية. 
   ولقد أنتجت شركة (International Film Corpration)، فيلمًا تحت عنوان "Patria" سنة (1916)؛ وفي هذا الشريط يحاول اليابان غزو الولايات المتحدة الأمريكية بفيالق تجتاح كاليفورنيا. ويحاول أحد الأمريكيين من أصل ياباني أن يغتصب البطلة وأن يقترف أعمالاً شنيعة أخرى. كما تصور أفلام الدعاية الألمانية اليهود على أنهم أشخاص خطيرين في شريط اليهودي الهائم (The Wendering Jew) سنة (1933)، بغية إقناع بعض الألمان بأنه من الوطنية القيام بتخليص الوطن من اليهود. وعن هذا كتب الباحث ريتشارد تايلور (Richard Taylor) بأنه حتى اليهودي سيصبح معاديًا للسامية بعد مشاهدته لهذا الشريط6وقد استغلت السينما الأمريكية هذه السلطة، في تشويه وتحوير في تقديم صورة تشوبها مجموعة من المغالطات تجاه الشخصية المسلمة، وتتمثل في تطرفها واستهدافها للأبرياء، وتعطشها للدماء، وتجردها من الانسانية. وهذا ما جسده فيلم قناص أمريكي "American Sniper" لمخرجه "Clint Eastwood" الصادر سنة (2014)، ويروي قصة "Chris Kyle" أشهر قناص في الجيش الأمريكي فتكًا بالأرواح. هذا الفيلم الذي يمجد التدخل الامريكي في العراق، ويؤجج مشاعر الكراهية والحقد تجاه المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى يصور لنا المخرج مدى براعة الشخصية الأمريكية في مواجهة الإرهاب، وحبها المستميت للأمن والسلام. ولعل أول من فطن وهاجم نزعة السلطة في ثقافة السينما، التي هدفها إخضاع الآخرين والهيمنة على وجودهم، وبرمجة سلوكهم الاجتماعي بواسطة الدعاية الخفية، الناقد والمؤرخ للفنون الكاتب الأمريكي اروين بانوفسكي (Erwin Panofsky)، حيث أيقن دمارها الشامل في مقطع وجيز شديد الكثافة، وببلاغة فائقة حيث قال: "إن السينما، سواء أحببنا أم لم نحب، هي القوة التي تصوغ  أكثر مما تصوغ أي قوة أخرى- الآراء، والأذواق، واللغة، والزي، والسلوك، بل حتى المظهر البدني لجمهور يضم أكثر من % 60 من سكان الأرض"7
   باختصار، فالصورة هي سلطة السلط  حسب دوبري-، بل هي السلطة الرمزية بامتياز، بمعنى أن خطابها يزاوج بين الظاهر والخفي: الظاهر بما هو بناء جمالي فني قصده الإمتاع والانتفاع، والخفي بما هو وسيلة تسويق لقيم مسكونة بهاجس الاستحواذ، بقيم غريبة عن المحيط الاجتماعي والثقافي للرائي. وبهذا تكون الصورة السينمائية تعبيرًا واضحًا عن ميولات صانعي خطاباتها، وعن رغباتهم الثاوية في عمق نفسهم البشرية، بإيجاد تصور ينسجم وتصوراتهم للعالم، ويصبح بمقدورهم تنصيب أنفسهم أسيادًا على العالم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1 - عبد العالي معزوز: فلسفة الصورة- الصورة بين الفن والتواصل، مطبوعات افريقيا الشرق، 2014، ص. 153.
2 - نفسه، ص.153.
3 - Edward l.Bernays : Propaganda. New York , Horace Livveright, 1928. P 156.for more informationsee:http://www.Voltaireenet.org/IMG/Bernays_Propaganda_in_english_pdf
4 - Joseph Boskin: “Denials: The Media View of Dark Skins and the City” in Small Voices and Great Trumpets,ed. Bernard Rubin (New York: Praeger), p141
5 - Dennis M. okawa, From japs to Japanese, (Berkeley : Publishing Corporation, 1971), p18
6 - Richard Taylor : Film propaganda, (london : Croom Helm, 1979), p190

7 - ألبرت فالتون: السينما آلة وفن، ترجمة صلاح عز الدين وفؤاد كامل، مكتبة مصر، 1958، ص7.

مجلة فكر الثقافية

الخميس، 31 مارس 2016

مفتاح "أسيكل" والانتصار للعواطف النبيلة

بقلم: مسعون بوكرن

 أسيكل (ASSIGGL)
فيلم طويل ناطق بالأمازيغية
المخرج: عبد العزيز أوالسايح
فكرة وسيناريو: محمد تسكمين 
حوار: محمد الحنفي
إنتاج: Ayouz Vision 2015

حائز على الجائزة الكبرى وجائزة أحسن ممثلة في الدورة التاسعة للمهرجان الدولي للفيلم الأمازيغي "إسني ن وورغ" بأكادير 2015


    دخلت كلمة "المفتاح" قاموس الحياة منذ أن كان حدا فاصلا بين شيئين، واتسعت معانيه لتستوعب كل جوانب المعاملات، فرمزية المفتاح تحيلنا على حدود مادية ومعنوية (مفتاح الصندوق – مفتاح الخير – مفتاح السعد) ، وتجعل من أداة نحاسية أو حديدية مصدرا لدلالات تاريخية واجتماعية وثقافية، وتتجاوز أحيانا المجال الأسطوري. 
    وفي فيلم أسيكل لـعبد العزيز أوالسايح، يجمع المفتاح بين مجمل هذه المعاني، ليتحول إلى بناء درامي شخص مختلف الإنطباعات النفسية، وردود الأفعال التي تعد مصدر التوثرات الخارجية لأصحابها، متوقفا عند حالات الجشع .. والطمع .. والحب .. والنفاق الإجتماعي ... وغيرها من الحالات السلبية.  
   وتستوقفنا عملية التناغم الإستباقي بحثا عن المفتاح في صورة جماعية، باستثناء "أمغار" المتفرد بانتظاراته الغريبة، ففي الوقت الذي كان الجميع في سباق مع الزمن من أجل الظفر بالجائزة، كان "أمغار" ينتظر لحظة الفوز بزوجة ثانية، في إشارة إلى الجدلية السلطوية التي تتصارع رغابتها الحيوانية، (جدلية الحرية والعبودية)، في تصوير دقيق لانطباعاته التي تفكر بمنطق ذكوري، ذلك المنطق الذي لا يعرف الإحتمالات إطلاقا، فبمجرد أن رسخت في ذهن "أمغار" عملية تحديث فكرة الزواج، قابلها مباشرة بحتمية الوصول إلى المفتاح على يد فتاة جميلة تناسب حجم مخيلته، وكان من المؤسف أن ينطبع الرمز السلطوي بهذا النمط في التفكير، وهو ما يكاد علماء النفس يقرونه في محاولات الكشف عن فوارق العلاقة بين السلطة والسلطويين، وبين التفكيرين: الذكوري والسلطوي.
    ومع ذلك نجد السيناريست "محمد تسكمين" ينتصر في طرحه ومعركته المفتوحة على مصراعيها للحب، فالحب هو الوحيد الذي لم يخضع لمنطق المفتاح، وأن الدنيا بما فيها من مغريات جذابة تصبح ذليلة أمامه، وتخضع هي الآخرى لقانون الهوى ومصارع العشاق، في استحضار تام للعواطف النبيلة التي ستمنحنا الثقة الكاملة في النفس، وتحيلنا على مبدأ أساسي ملخص في وحدة التفكير عند ذوي النفوس المستقرة، والتي لا تستطيع أن تجمع بين الحب والطمع في وعاء واحد.


   لعب الديكور دورا مهما في تأثيت مشاهد الفيلم تأثيثا فنيا، وقد ساهم بشكل ملحوظ في تحويل مشاهد عادية إلى لوحات تشكيلية رائعة، بإمكانها أن تشد الفنان وغير الفنان، لما تحمل من ألوان متجانسة ومعبرة، وساعد المخرج كثيرا في توضيب تصوراته التي رسمها لهذا العمل، والتي لم تخرج كثيرا عن نمطه المعتاد في مجمل تناولاته، لأن لمسات أوالسايح الإخراجية تحمل نسقا تكاد تتفق عليه كل أعماله، ومن النادر أن تجدها في أعمال أخرى، وكأنها بصمة انفرد بها رغم وجود تقارب واضح بين الأشكال والأنماط الأمازيغية، هذا فضلا عن تجانس لغة الفيلم الحوارية، والتي كان وراءها أحد رواد الحرف الأمازيغي (الفنان محمد الحنفي) فهي الأخرى ساهمت في تماسك البناء العام للعمل، لما تتميز به من سلاسة وعذوبة، ولما تحمل من معاني ودلالات تذكرنا بأسلوب شيخ الشاشة الأمازيغية الفنان "الحسين برداوز" حيث لم تختلف عن نمطه في الكتابة كثيرا، بل من لم ينتبه لاسم كاتب السيناريو في جينيريك البداية من الصعب أن يراهن على غيره.
   صحيح أن الفنان مبارك العطاش لم يغير شخصيته المألوفة طيلة سنواته الأخيرة، إلا أن باقي أفراد عائلة "أسيكل" حاولوا تقديم شخصيات مغايرة لما سبق وأن قدموه، وإن كان منهم من بالغ في ذلك لدرجة التكلف كما هو الشأن بالنسبة للفنان "أحمد عوينتي"، ولا تزال لكنة الفنانة "خديجة سكرين" متأثرة باللسان الدارجي، في حين ظهرت كفاءة مشاهير الشاشة الأمازيغية حسب التوزيع الإخراجي للعمل، كما ظهرت الفنانة "خديجة أمزيان" (صاحبة اللقب) في ثوب جديد وهادئ منسجم مع طبيعة الدور المنوط بها، وهي تجعلنا نساير معها أحداث الألم الذي تحترق به طيلة أحداث الفيلم، وذلك من جراء البعد الروحي الذي تعيشه، رغم القرب الجسدي، وكانت خلاف بقية ساكنة المنطقة تتنظر اللحظة التي ستكفر فيها الدنيا عن كل خطاياها معها حين أبعدتها عن روحها الذي تتنفس من أجله، وتجمعَ بينهما بعيدا عن طمع الطامعين، وإن كانت تَحْمدُ للمفتاح موقفه الذي جعل الناس ينشغلون عنها وعن لقاءاتها البريئة بحبيبها. 



   وسع المخرج عبد العزيز أوالسايح مساحة توظيفاته لأهل الذمة خلاف أعماله السابقة، وأقام لذلك قواعد مستواحاة من البيئة الأمازيغية التي عايشت اليهود بشكل طبيعي يحمل كل معاني التحضر والإنسانية، الأمر الذي لم يحض بنصيبه الأوفر في الأعمال السينمائية الأمازيغية، ورسم لهذا التعايش خطوطا رفيعة وبالغة الدقة حين جعل كل يهودِي المنطقة ينخرطون في عملية البحث عن المفتاح، وكان من ذكاء المخرج أن تخلص من عقدة الأنا، ونبذ الآخر حين تجنب فكرة تدجين صورة أتباع موسى عليه السلام، المشهورة في التاريخ بالطمع والجشع، فجعل الناس سواسية أمام واقع دنياهم، وهم يجْرون خلفها، ولا فرق في ذلك بين مسلم أو يهودي أو رجل أو امرأة أو صغير أو كبير.
   وإذا كانت في العمل بعض الهِنَات التي لا تنقص من قيمته الفنية، ولم تثقل كاهل فريق العمل فنانين وتقنيين، فهي في مجملها تضم متابعة المفتاح الذي يختفي أحيانا بشكل غير مبرر، ونهاية الفيلم التي حوَّلها "أمغار" (الفنان الكبير عبد اللطيف عاطيف) إلى مشهد لم يشجع المشاهد كثيرا للتعاطف معه، حيث تمت الأجواء النهائية ببيته في حالة تَضَمُّر من نواحي متعددة، ووزعت عواطف المشاهد عبر عدة محطات بشكل غير متساوي، إضافة إلى بعض المشاهد الفكاهية التي لم تبرر وجودها داخل السياق، وكذا فقيه الدوار (الفنان علي شوهاد) الذي رفض أن تُقَسِّم تلميذته الصغيرة آية قرآنية إلى شطرين، فقّسَّم هو آية واحدة إلى خمسة أشطر في مشهد آخر.

   وعلى العموم فإن فيلم "أسيكل" من الأعمال السينمائية الجيدة التي أنتجتها شركة أيوز فيزيون ومجموعة تيفاوين، به من المميزات السينمائية، والدلالات الأمازيغية والفنية واللغوية ما أهله لنيل الجائزة الكبرى وجائزة أحسن ممثلة في النسخة التاسعة للمهرجان الدولي للفيلم الأمازيغي إسني ن وورغ بأكادير سنة 2015.