مايو 2016 - رشفات سينمائية

الثلاثاء، 31 مايو 2016

الثالوث المدنس في السينما المغربية

بقلم: د. بنسالم حميش







   عطفا على مقالتي السابقة "والتدهور الثقافي أيضا"، هي ذي أخرى تكشف عن وجه مخصوص من التدهور ذاته في قطاع السينما.
   عرفت هرطقة عيوش الأب حول الدارجة (دارجته) فشلا ذريعا، لما أن شطبها المجلس الأعلى من مداولاته وتقريره؛ وكان لمن وقفوا ضدها، وصاحب هذه السطور منهم، دور أكيد في ما آلت إليه.
   لكن ما إن تخلصنا منها حتى أحدث عيوش الإبن هرطقة أخرى في فيلمه الأخير، تعنّيت مشاهدته على اليوتوب من باب ولعي بالسينما وممارستي كتابة السيناريو، فرأيت أن هذا الوليد الجديد، علاوة على أحادية البعد والمعالجة فيه، وإساءته إلى بلد عربي مذكور بالاسم، وتقويل "السعودي" لشتم في الفلسطينيين، وإظهار شابات في أوضاع حيوانية مهينة: واحدة تحبو وخلفها رجل كأنه يقودها بسوطه؛ قزم يطبطب على مؤخرة شابة ثانية، إلخ، علاوة على كل هذا وسواه فإن ذاك الوليد بالغٌ درجة الصفر في الإبداع تصورا ولغةً وذائقة فنية وحتى معرفةً بالموضوع نفسه.
   أما قرار منع الفيلم من العرض، فهذا ما سيسخره صاحبه كورقة لتسويقه في أوروبا والتبرج بمظهر ضحية الرقابة والقمع. لكن هذه الحيلة، بعد أن نفعته في ماضي الأيام، فإنها الآن باخت ولن تنطلي مجددا على الأوساط السينمائية الأجنبية الجادة، هذا ولو عاد الوالد إلى تحريك آلته الإشهارية المتنفذة وشبكة علائقه الواسعة.
   أما داخل المغرب، فحتى لو لم يصدر قرار المنع ذاك، فإني لا أرى موزعا أو ربّ قاعة يقبل بترويج ذلك المسخ، بل إن ممثلين لأهل الفن السابع استبشعوه، منهم مثلا الفنانة الموهوبة السيدة سهام أسيف التي اعترفت بالمناسبة أنها كانت دائما ترفض عروض لعب أدوار العري والخلاعة، وتأكدت من حسها الأخلاقي حين أدت بمهنية عالية دورا في فيلم تلفزي كنت وضعت له السيناريو.
عودا إلى الموضوع كما عنونته أقول:
   تشكو السينما المغربية من شروخٍ ومعاطبَ شتى يقيسها العارفون برسوخها وتواترها. ولن أتحدث هنا عن ضعف الإقبال عليها أو تناقص قاعات العروض على امتداد البلاد، ولا عن غرابة إلحاق قطاع الفن السابع بوزارة الإتصال (وهذا من عقابيل سنوات الرصاص)، ولا عن ضحالة تكوين أغلب مخرجينا وضيق أفقهم الثقافي حتى سينمائيا، لا ولا عن تملك كل واحد منهم لشركته الإنتاجية واستفراده بكتابة السيناريو والحوار، وحتى عند البعض بلعب دور في أفلامهم، وغير ذلك؛ لا، بل إنها مسألة حدث لي أن رصدتها رصدا أيام شغلت رئاسة صندوق دعم الإنتاج السينمائي المغربي مدةَ عامين (2007-2008)، تتعلق بغلبة ما قد أسميه الثالوث الموضوعاتي المدنّس من طرف من سأذكرهم، وهو الجنس بكل فروعه، المخدرات والتطرف الديني، وما يحوم حوله من تنويعات، كالهجرة السرية والحب الخائب وشوية سياسة ، وأيضا من مقبِّلات وتوابلَ تتضافر كلها وتتناسل لتصوير المغرب كما لو أنه من أكبر العواصم العالمية لتلكم الظواهر والإنحرافات.
وتبيّن لي إذذاك سُخف تسويغاتٍ وتبريراتٍ وبوارها، من صنف: "الجمهور عايز كذا" أو "احنا ماشيين مع الأذواق"؛ إلا أن عزوف الجمهور وحتى موزعينا وأرباب القاعات عموما عن أفلام مخرجينا إجمالا ينقض ذلك تماما ويبطله ليترك المجال واسعا للتفسير الأوحدِ الدامغ، وهو ذو شيقين: إما طمع أولئك المخرجين في الترويج لنتاجهم خارج المغرب بترغيب موزعين أجانب وتملقهم؛ وإما تلهفهم على جني إسهامات تمويلية (وهذا هو الأغلب) من منتجين فرنسيين وفرنكوفونيين موعودة قبل الإخراج أو خلاله.
   وما كنت لأقف عند هذا الرصد لولا شهادات بعض مخرجينا النزهاء -وهم قلة-، ومنهم السيدة المقتدرة فريدة بليزيد، باحوا لي باتصالات جرت معهم مرات من طرف أولئك المنتجين، تعبر عن استعدادهم للمساهمة جزئيا أو كليا في تمويل أعمال سينمائية، شريطة أن يسايروا ذلك الثالوث، الذي هو عندهم مقدس ويطاوعوه. وبالطبع كانوا يرفضون بحجة نبيلة هي أنهم لا يمارسون فنهم السينمائي تحت الطلبيات والتعليمات.
   وما عدا هؤلاء النزهاء (ومنهم أيضا الماهد سهيل بن بركة الذي اعتزل السينما وجيلالي فرحاتي وحكيم بلعباس) يظل الآخرون يتسابقون إلى دخول بيت الطاعة، ضاربين أرقاما قياسية في الممالأة والزلفى لجلب ما استطاعوه من الجهات الأجنبية ومن أخرى مشبوهة، مع الإبقاء على طلب الدعم من الصندوق المغربي من دون عفة وخجل.
   حاولتُ وقتذاك أن أحجِّم الظاهرة وأقلل من أضرارها، كما تعبت -كم تعبت!- في جعل اللغة العربية وعاميتها لغة كتابة السيناريات ومداولات لجنة الدعم. وقد أكون توفقت قدر الإمكان، لكن من دون أي ضمانة في استمرارية الموقف المصحِّح لدى من أتوا بعدي.
   وقرين تلك الظاهرة تأكد لي خلال مخالطتي للوسط السينمائي أيام اشتغالي بكتابة سيناريات لثلاثة أفلام تليفزيونية للقناة الثانية مع المخرج إسماعيل (حصل منها "علال القلدة" على الجائزة الأولى في مهرجان بالقاهرة سنة 2004)، وكذلك أثناء متابعتي لمراحل في التصوير وحضوري بعض المهرجانات وعضويتي في لجن تحكيم.
   بالمثال قد يتضح المقال: لعل أمهر أولئك المخرجين المهرولين إلى ما ذكرت هو الغني عن التعريف، نبيل عيوش، إذ صار أكثر فأكثر قدوة لمجايليه في المهنة وسواهم (كليلى المراكشي، لقطع، لخماري)، حتى قبل أن يقدم على تكييف وأفلمة رواية عنوانها "نجوم سيدي مومن" لماحي بنبين، وهو الحي الصفيحي الفقير بالدار البيضاء الذي أنجب شبابا منحرفين، انخرطوا في عمليات إرهابية شنيعة، هزت فندقا وأمكنة بالدار البيضاء في 2003، وخلفت العديد من القتلى والجرحى؛ لكنَّ المخرج هذا استبدل ذلك العنوان الأصلي بآخر يُرضي رعاته الأجانب، وهو "يا خيل الله"، مصورا أولئك الشباب الجانحين أحصنةً يمتطي الإله صهواتها، ويحرضهم على أعمالهم الإرهابية، جهادا في سبيله وتقربا إليه... أيّ أميّة أوغل من هذا وأبشع!.
   ويستمر مخرجنا على نهجه وديدنه، إذ آخر ما أضافه إلى بالماريس أعماله، كما قدمنا، يرجعنا إلى أحد فروع الجنس الماثل هذه المرة في الدعارة من خلال عرض جوانب من حياة مومسات مغربيات، وبأسلوب فج ولغة ساقطة. وقد أعطاه، كما هي عادة مخرجين آخرين في التحذلق المصطلحي اسما بالأنجليزية Much loved (وبالدارجة "الزين اللي فيك").
   ولا ريب أن المخرج سيلقي وراء ظهره بتلكم الشابات الشقيات اللواتي يحترفن البغاء وليس التمثيل، ما عدا واحدة فاشلة، لا حماية لهن من السيدا ولا تغطية صحية ولا حياة عائلية؛ ولا شيء من هذه المآسي يهم المخرج الذي يكتفي بتعويضهن عن أدوارهن المهنية بشوية فلوس، كما فعل مع أطفال فيلمه الأسبق "علي زاوا"، الذي عاد "بطله" المسكين إلى انحرافه وتشرده.
   ومعنى هذا أن موضوعات ذلك الثالوث ومشتقاته، إنما يدمن عليها محترفوها سينمائيا بقصد مبيت، هو النزوع الجامح إلى استغلالها والتربح بها كحكرة تجارية قائمة أساسا على إثارة الحواس والنزوات البهيمية من العري والكلام الحضيضي، مثلها مثل الأشرطة البورنوغرافية المتخصصة، مع فارق مهم هو أن هاته لا تُحدد غالبا بالتسمية والتعيين بلدان تصويرها، خلافا لما دأب عليه أصحاب تلك، أي إعلان اسم المغرب من خلال إحدى حواضره الكبرى (مراكش، الدار البيضاء، طنجة...). وقد تفوق في هذا وبرز صاحب الفيلم المذكور بجولاته وصولاته الحادةِ المتواترة.
   إن انتفاضة مواقع وشبكات اجتماعية ضد "الزين اللي فيك"، وتنسحب أيضا على فيلمين سابقين "لحظة ظلام" و"ما تريده لولا"، محقة في ما ذهبت إليه حين وصفته بالرداءة والنتانة شكلا ومضمونا.
أما المقاطع الباعثة على التقزز بل القيء التي عرضتها، فلا ينفع في تبرير صاحبها بكونها إنما سُربت أو اجتزئت، بل هي ما عزز به طلب اعتماد الفيلم من طرف لجنة كان على هامش المهرجان، أي خارج المنافسة، وهذا في حد ذاته حدث غير ذي بال؛ وأما تسويغ الفيلم من حيث إنه يصور الواقع (هذ الشي كاين، حسب تعبير أزلامه)، فإن قبوله قد يهيئ بالتماثل -وهذا هو سؤال الأسئلة- تصوير مشاهد في ممارسة الجنس المثلي والجنس الجماعي والبيدوفيليا أو لـِمَ لا نكاح المحارم، وذلك بدعوى أنها واقع، ثم السعي إلى عرضها على الناس في القاعات المظلمة.
   وبهذا يكون المخرجون من هذا الصنف والطينة يخلطون خلطا شنيعا ما بين حرية التعبير وحرية العبث والتخريب، ولا يقيمون في منظومتهم الذهنية المختلة أيَّ وزن واعتبار لما نجمع على تسميته بحس المسؤولية وقيم المجتمع وأساسياته، التي إذا ما مست بسوء بالغ، فلا غرو أن يثير هذا السوء ردود أفعال مشمئزة مستنكرة. وبهذا الصدد ينتظر من ناشطات الحركة النسائية أن يعبرن عن موقفهن من إهانة المرأة المغربية عن قصد وسبق إصرار، وذلك بتحويلها إلى بضاعة مبتذلة وبائعة لجسمها وكرامتها على نحو يدوس أبسط حقوقها...
   إن السينمائيين عموما في بلادنا تعوزهم معرفة تاريخها وتكوينها الإجتماعي وثقافتها، كما أنهم يعادون لغتها من فرط ما يجهلونها. الفرنسية، ولو وسطى أو مهلهلة، هي قرة أعينهم، أميرتهم وآمرتهم، مع تصريف الحوار بعامية مغربية هجينة مهترئة. وتنتج عن ذلك أفلام سريعة الطبخ والعرض، سرعان ما تتلاشى ويطويها النسيان. هكذا حالهم، حتى إذا تمكن بعضهم من المشاركة في مهرجانات عالمية، ارتدت إليهم صور صغرهم وضآلتهم، ولكنهم لا يتدبرون ولا يعتبرون. وهكذا يظلون على مرِّ السنين من المدجَّنين المستلبين حتى النخاع، عبيدي الهيمنات الطاغية ومن مطبعي التبعيات الذيليةِ الإرادية العقيمة.


المصدر: هيسبريس

الأربعاء، 18 مايو 2016

جدلية الصراع في الفيلم التاريخي "للا تاوعلات"

بقلم: عبد الرحيم الصالحي



   يندرج فيلم "للا تاوعلات" للمخرج "مسعود بوكرن" ضمن خانة الأفلام التاريخية الدينية، ويعتبر أول فيلم أمازيغي جمع بين تيمتي التاريخ والدين، هذا إذا استثنينا الفيلم التلفزي المدعم "أخي طارق" لمخرجه عبد الله العبدلاوي.
   " للا تاعلات" أو " للا تاوعلات" كما يحلوا لمريديها أن يسموها، قصة حقيقية مقتبسة من عبق التاريخ الأمازيغي والمغربي عموما، حبكها مخرجها وكاتب السيناريو "مسعود بوكرن" في قالب درامي فني ممزوج باللغة السردية الواصفة لعوالم استعصت عليه لطابعها الفانتازي والميتافيزيقي، باعتبار البركات والمواقف التي عُرفت بها الشخصية البطلة في زمانها.
    استطاع المخرج أن يحبك قصة شخصية مأثور عليها زهدها وولعها وتقواها وشدة إيمانها بالله عز وجل، عبر متتاليات من الأحداث المندمجة بعضها ببعض، والمتشابكة في ما بينها من خلال صراعات ثنائية تارة، وأخرى ثلاثية ليقربنا من عالمها، بعيدا عن التصنيع الفنتازي لها. هي مقاربة تمتح من التاريخ، والدارس للتاريخ يعلم يقينا أن المشتغل على هذا النوع من التيمات يفتح نافذة واسعة للنقد، ويحيط نفسه بعدة تساؤلات، منها السؤال البديهي: ما مدى مصداقية وملاءمة قصة الفيلم للوقائع الحقيقية التي توارثتها الأجيال؟، أو ماهي مصادر السيناريست المعتمدة؟، علما أن ما كتب عن "تاعلات" تاريخيا لا وجود له عن المستوى التوثيقي كما صرح المخرج نفسه في إحدى لقاءاته الإذاعية، لتبقى الرواية الشفوية هي سيدة الموقف، هذا المجال سنتركه لذوي الإختصاص.
تيمة الصراع
    تنطبع تيمة الصراع داخل الفيلم لتشكل النمط المتتالي والمستمر عبر الأحداث، وتصور عالم "للا تاعلات" من خلال صراعات ثنائية، يطبعها الكره والحقد والرغبة في الإمتلاك والتملك، من خلال الشخصيات الفيلمية، ونخص بالذكر العلاقة (الصراع الرئيس بين "أمغار"  و"فضيلة") التي تتشكل من خلالها الرغبة الجامحة لأمغار (رمز السلطة) في حبه للتملك والقوة االجاه، باعتبار زوجها الغائب عن الديار لسنوات، وامتلاكها لأموال لا تجد مفتاحها سوى عن طريق "أمغار" الطامع في استغلالها والزواج منها لاحتواء الإثنين، إلا أن تودده المدفون لها يقابَل بكثير من الرفض الصارخ، والرغبة في الخلاص من طرف "فضيلة"، هذه الأخيرة التي استسلمت للأمر الواقع، وعبرت عن رفضها لتجاوزات الرمز السلطوي برحيلها عن القرية.
    يخوض "أمغار" صراعات متعددة في القبيلة (إيالته الحكمية) عبر قناة السلطة بمعية خادمة الماكر، ووسيلته في ارتكاب الجرائم، يتجلى ذلك من خلال صراعه مع الفقيه (سيدي الطاهر)، الشخصية المتزنة، والتي تحقق النقطة الوسطية والتوازن داخل الفيلم، يتجلى هذا الصراع من خلال ثبات الفقيه على الحق، وعدم الإرتكان إلى "أمغار"، مما شكل نقطة القطيعة بينهما، وعدم الدخول ضمن دائرة الائتمان بينهما، هو صراع غير نمطي لكون أمغار غالبا ما يؤثر على السلطة الدينية من خلال محاولات إغراء وإحتواء الفقيه الشيء الذي لم يتحقق، وأصبح بؤرة النزاع بين الطرفين.
    انخرط " أمغار " في صراع مع "للا تاعلات" التي يكن لها كرها شديدا لتمردها عليه، وخروجها عن منطقته السلطوية، والتي واجهت تجاوزاته بالعمل على تمريغ سلطته في التراب، بدفاعها المستميت عن الحق ولو كان على حسابها. إن الرغبة الجامحة لأمغار في التخلص من بطلة الفيلم كقوة دينية حاضرة مشكلة للإطار الزمني، وصلت في أقصى درجاتها حد الرغبة في القتل، لتحقيق الخلاص النفسي والروحي، إلا أنه لا ينفك أن يستسلم بدوره في النهاية لما اعتقد أنه مجرد عاصفة موسمية، وهنا نرى المخرخ لا يزال متمسكا بفكرة سَبَق وأن عالجها في عمله الأخير، وهي أن الزمن كفيل بالإنتقام، ورد الإعتبار للمظلومين.
   يتعدد الصراع داخل الفيلم، ويتفنن في حبك الشخصيات لينتقل من صراع التملك والقوة والرغبة في الإحتواء المطبوع بكثير من الأنانية وحب الذات، إلى صراع تغلفه الغيره والحب الأعمى، من خلال المواجهات القائمة بين الزوجة الثانية لـ"بوزكري" (زوج تاعلات)، وبين " تاعلات " البطلة، هنا يتجسد حب المرأة السادي لزوجها، ونبذ كل مقومات التعايش مع الضرة التي استنكفت الانخراط في هذا الصراع، وتعاملت معه بكثيرمن الحكمة والعقلانية، منطلقة من فهمها الصوفي للحياة، في الوقت الذي انحاز فيه "بوزكري" نحو الضرة، وترك الصراع قائما أمام عينيه، متلذذا ثارة، وتارة محايدا ومتتبعا سلبيا لوقائع الأحداث.
    تتطور الأحداث بشكل تراتبي بين "تاعلات" وزوجها وضرتها، لتبدو فيه البطلة محققة التوازن العائلي، نزولا عند رغبة زوجها الراغب في الحصول على الأولاد، وهو ما جعل الضرة تفسح له المجال في التعدد، ومع ذلك أذاقت الويلات للزائرة الجديدة التي لم يصدر منها أي رد معاكس، سوى الدعاء لها بالهداية ، متمسكة بما كان يقابل به الرسول صلى الله عليه وسلم تصرفات عشيرته بقوله: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
   تظهر شخصية "بوزكري" سلبية إلى حد ما، خصوصا في تعامله مع البطلة، شخصية تشوبها حالة التذمر، حائرة، تائهة ومتذبذبة بين الضرتين، وضعف بنيته الشخوصية جعله يظهر بشكل سلبي، ولا يحقق أية غاية ذكورية سوى أنه زوج، انتهت حاله وحال زوجته الثانية بالندم والتحسر على ما أقدما عليه تجاه "تاعلات"، ويتجلى ذلك من خلال رغبتهما الجامحة في الإعتذار لها، خصوصا بعد ما أكد فقهاء وعلماء عصرها ولايتها.
  الصراع والرمز
     للصراع آفاق متعددة داخل الفيلم، يتشكل ملمحا ظاهرا باعتباره التيمة الطاغية، ويتخذ أبعادا سيكولوجية، وأخرى بنيوية وإديولوجية،  بالرغم من التوحد الظاهر في العقيدة. "تاعلات" الدالة على الخير والإيمان، و"توشكا" المشعوذة المجسدة لكل معالم الشر داخل المظومة المجتمعية، هذه الأخيرة التي نادرا ما تظهر، إلا أنها حاضرة رمزيا بقوة، وتفرض سلتطها داخل القبيلة من خلال طبيعة مريديها ووضعيتهم الإجتماعية، خصوصا "أمغار" الذي يعتبر أهم زبنائها، الحامل لدلالة واضحة تبرز السلطة التقديرية والتشريعية، والتي تبدو عليها سمة العلاقات الصورية، مما جعلها تمنح المتحكم والمسير لمجرياتها صفة باهتة يظهر عليها الضعف الذي يقابل القوة، كما تبدو السلطة العليا ظاهرة بيد "توشكا" باعتبارها القوة القاهرة للسلطة المركزية في صورة إيحائية رمزية أخرى، تكشف عن أنواع الصراعات التي بنيت عليه مادة الفيلم الأساسية.
     أما الطرف الثاني في هذا الصراع فهو متمثل في شخصية "تاعلات" البطلة، شخصية متكاملة ، دالة على الخير كله ، والحكمة ، تتصف بصفات الزهاد والوراع والثقاة ، تتصارع في حرب باردة مع "توشكا " ، أعتبر شخصيا هذا الصراع بين الشخصيتين الحاملتين لأبعاد ودلالات رمزية لم يأخذ طابع المباشرة والمواجهة ، صراع مألوف داخل المجتمعات القروية ، حيث يرتكن الجميع لأحكام الفقهاء والشيوخ بتعليمات من المشعودين والدجالين في نفاق مجتمعي ينخرط فيه أغلب الناس طواعية وكأنه الواقع الحقيقي . لم ينخرط المخرج أو السيناريست في دهاليز هذه اللعبة ، بل باعد إلي حد كبير بين الشخصيتين بقوة في الفيلم ولم يجعل بينهما حوارا مباشرا، ولهذا البعد دلالته الخاصة، وظل الصراع قائما بينهما من خلال علاقات كل منهما بالمريدين، أجد في هذا الطرح نوعا من التعالي من طرف المخرج في العلاقة بينهما، خصوصا وأن الفيلم يمتح من الدين الذي يحارب المعتقدات والمشعوذين والمبتدعين.
  صراع "توشكا " و "تاعلات" ظل متقزما، ولم يأخد الحيز الكبير في الفيلم، بالرغم من حضور الشخصيتين بقوة. صراع لم تكتب له نهاية، وانكسر مع توالي الأحداث تدريجيا، حتى أننا لم نحس به، خصوصا أن المخرج ركز في الأخير على الحالة النفسية للبطلة لحظة الإحتضار.
 إن الباحث في التاريخ يدرك يقينا أن الولية الصالحة "تاعلات" مأثور عليها أقاويل يعجز القلب عن تصديقها، وما يزكي ذلك أن عددا من الفقهاء والشيوخ والعلماء المغاربة أكدوا حضورها الولاياتي، واعتبروها ولية صالحة زاهدة متعبدة،  ما يضفي عليها مصداقية الأولياء، والإشتغال على مثل هذه المواضيع المتسمة بالغيبيات والفنتازيات أخضع المخرج إلى إكثارالسرد والوصف والحكي المصبوغ بالتخيل لإيصال عوالم الولية للمتلقي، وفي ذلك قتل لملكة التحليل لدى المشاهد، وبالتالي تجعل الفيلم يميل إلي رتابة القول مقابل قوة الصورة التي تعتمد عليها السينما. 



لمشاهدة فيلم للا تاوعلات كاملا

الثلاثاء، 10 مايو 2016

السلطة الرمزية للصورة السينمائية

بقلم: بوجمعة أكثيري

   

   تعد تكنولوجية الصورة والإعلام، إحدى ركائز التفوق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي... في المجتمعات الحديثة، نظرًا لما لها من قدرة جبارة على الإقناع والتأثير والتوجيه، بل والتحكم في القيم، وتغيير الأذواق، والتمثلات والنظرة للأمور وللعالم؛ ما يفسر أن تكنولوجيا الصورة الحديثة بشتى تلاوينها (السينما، التلفزة، الإنترنيت...)، غذت سلطة فعالة في أيدي الدول الكبرى، والشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر على الصناعة الاتصالية. 
   فما هي يا ترى، تجليات هذه السلطة؟
   تستمد الصورة سلطانها مما نستثمره فيها من رغبات، وتقوم مقام رغباتنا في تحويل العالم، إن للصورة قوة تأثيرية تفوق كل التوقعات1، سيما وأنها توظف مجموعة من التقنيات (السيناريو، الحوار، الإخراج، المونتاج، الإنارة، والماكياج، الإكسسوارات، المؤثرات الصوتية...)، بغية بسط سلطانها على المشاهد؛ فرهان هذا الاختراع البصري، التحكم في زمام الأمور، وتكريس سلطته على الفضاء العام والخاص، من خلال:
- قدرة الصورة السينمائية على إقحام المشاهد - الذي يفتقد للحس النقدي والتحليلي للخطاب السينمائي- في عوالم جديدة، قد تغير من آرائه وقيمه ونظرته للأمور والعالم، وتجعله "إنسانًا خاضعًا" لا ينفك من قيودها التي سحرته، وأسرته، وخلخلت بناه النفسية والاجتماعية...إلخ.
- قدرة الخطاب السينمائي المرئي، على تشكيل سنن ذهني عند المشاهد، يربط الواقعي بالمتخيل؛ مما يحدث فوضى كبرى بين العالمين لديه، وفي الوقت ذاته يصعب من إمكانية تكيفه مع واقعه المعيش.
   لقد أحدثت الصورة- الآلة ارتجاجًا في النظام البصري المعاصر كما يقول رجيس دوبري2 (R. Debary)، وغيرت كيفية إدراكنا، وتمثلانا للعالم الذي نتنفس هواه. في هذا الشأن، يقول الكاتب الأمريكي إدوارد برنيز المتخصص في علم السلوكيات البشرية في كتابه "الدعاية": إن السينما من أعظم الوسائل قدرة على تشكيل الوعي الباطني للشعوب العالم؛ إن لم نقل أنجعها على الإطلاق في غزو أفكارهم والسيطرة على آرائهم؛ إن السينما بإمكانها أن توحد الأفكار والعادات لأي أمة من الأمم3؛ بما مفاده: أن هذه السينما ليست مجرد صور مجانية -  فرجوية قصدها الإمتاع والمؤانسة، كما يعتقد البعض جهلاً- تعمل على بعد تزييني أو هامشي، بل هي حصان طروادة تتسرب منه الوصاية الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية...، على عقول الملايين من المشاهدين جراء غياب فكر نقدي مضاد وعقلاني، يقيهم من شر التغليط والتمرير الممارس عليهم من طرفها بدهاء ماكر. فهذه الصناعة السينمائية في رأي "برنيز" لها سلطة عظيمة على برمجة وتكييف العقول لإيجاد واقع بديل، لواقع موجود، يؤدي دورًا في إلغاء الذات والسيطرة على الأهواء، وضرب القيم والثقافات الوطنية للشعوب والترويج للعولمة الثقافية المبينة على الإخضاع والغزو الثقافي.
   وبهذا المعنى، تغدو صناعة الصورة السينمائية، أداة ترويض، تسعى إلى أن تجعل منا أسرى موضوعاتها وتصوراتها التي يؤسسها منظروها؛ إضافة، إلى إنتاج كل تفاصيل حياتنا اليومية، بل ونصير أبواقها الآدمية؛ بمعنى أوضح تريد أن تتملكنا، وأن تتكلمنا  كما يقول هيدجر- عوض أن نتكلمها. تريد فصلنا عن جاذبية العقل والقيم، والدين... تريد إلباسنا ثوب الآخر، بدعوة الترفيه؛ يقول فوفوناركيس (Vauvenargues) لقد أعلن شيشرون (Chesteron) شكلاً خفيًا للسلطة4، تحت قناع من الوداعة، فالطاغية المستبد ليس الرجل الذي يحكم عبر الرعب، بل هو الذي يحكم بالمحبة ويلعب كمن يعزف قيثارة.
   فدلالة صورها تبطن غير ما تظهر، وتظهر خلاف ما تبطن، كأنها تتآمر علينا؛ الأمر الذي يؤكد، أن الصورة السينمائية تؤسس لسلطة من نوع آخر، سلطة الوسيط الأكثر رواجًا من طرف الجميع؛ سلطتها سلمية لا تستعين بقنابل نووية، أو دبابات، بقدر ما تستعين بالخطاب الرمزي المؤسس على تصورات ذهنية صاغت مبادئ السيطرة ولغتها؛ فيكفي مثلاً أن تترسخ صورة عن جماعة أو قضية، أو حدث، حتى تنتشر في الأحاسيس العميقة وتؤثر بشكل بالغ في العمل السلوكي5إن  مفعول صور الأفلام ليس ظاهرة حديثة العهد، ففي الماضي، ساعدت صور الأفلام التي تحط من قدر الآسيويين في نشر المشاعر المعادية لهم في الغرب قبل وأثناء بعد الحرب العالمية الثانية. 
   ولقد أنتجت شركة (International Film Corpration)، فيلمًا تحت عنوان "Patria" سنة (1916)؛ وفي هذا الشريط يحاول اليابان غزو الولايات المتحدة الأمريكية بفيالق تجتاح كاليفورنيا. ويحاول أحد الأمريكيين من أصل ياباني أن يغتصب البطلة وأن يقترف أعمالاً شنيعة أخرى. كما تصور أفلام الدعاية الألمانية اليهود على أنهم أشخاص خطيرين في شريط اليهودي الهائم (The Wendering Jew) سنة (1933)، بغية إقناع بعض الألمان بأنه من الوطنية القيام بتخليص الوطن من اليهود. وعن هذا كتب الباحث ريتشارد تايلور (Richard Taylor) بأنه حتى اليهودي سيصبح معاديًا للسامية بعد مشاهدته لهذا الشريط6وقد استغلت السينما الأمريكية هذه السلطة، في تشويه وتحوير في تقديم صورة تشوبها مجموعة من المغالطات تجاه الشخصية المسلمة، وتتمثل في تطرفها واستهدافها للأبرياء، وتعطشها للدماء، وتجردها من الانسانية. وهذا ما جسده فيلم قناص أمريكي "American Sniper" لمخرجه "Clint Eastwood" الصادر سنة (2014)، ويروي قصة "Chris Kyle" أشهر قناص في الجيش الأمريكي فتكًا بالأرواح. هذا الفيلم الذي يمجد التدخل الامريكي في العراق، ويؤجج مشاعر الكراهية والحقد تجاه المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى يصور لنا المخرج مدى براعة الشخصية الأمريكية في مواجهة الإرهاب، وحبها المستميت للأمن والسلام. ولعل أول من فطن وهاجم نزعة السلطة في ثقافة السينما، التي هدفها إخضاع الآخرين والهيمنة على وجودهم، وبرمجة سلوكهم الاجتماعي بواسطة الدعاية الخفية، الناقد والمؤرخ للفنون الكاتب الأمريكي اروين بانوفسكي (Erwin Panofsky)، حيث أيقن دمارها الشامل في مقطع وجيز شديد الكثافة، وببلاغة فائقة حيث قال: "إن السينما، سواء أحببنا أم لم نحب، هي القوة التي تصوغ  أكثر مما تصوغ أي قوة أخرى- الآراء، والأذواق، واللغة، والزي، والسلوك، بل حتى المظهر البدني لجمهور يضم أكثر من % 60 من سكان الأرض"7
   باختصار، فالصورة هي سلطة السلط  حسب دوبري-، بل هي السلطة الرمزية بامتياز، بمعنى أن خطابها يزاوج بين الظاهر والخفي: الظاهر بما هو بناء جمالي فني قصده الإمتاع والانتفاع، والخفي بما هو وسيلة تسويق لقيم مسكونة بهاجس الاستحواذ، بقيم غريبة عن المحيط الاجتماعي والثقافي للرائي. وبهذا تكون الصورة السينمائية تعبيرًا واضحًا عن ميولات صانعي خطاباتها، وعن رغباتهم الثاوية في عمق نفسهم البشرية، بإيجاد تصور ينسجم وتصوراتهم للعالم، ويصبح بمقدورهم تنصيب أنفسهم أسيادًا على العالم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1 - عبد العالي معزوز: فلسفة الصورة- الصورة بين الفن والتواصل، مطبوعات افريقيا الشرق، 2014، ص. 153.
2 - نفسه، ص.153.
3 - Edward l.Bernays : Propaganda. New York , Horace Livveright, 1928. P 156.for more informationsee:http://www.Voltaireenet.org/IMG/Bernays_Propaganda_in_english_pdf
4 - Joseph Boskin: “Denials: The Media View of Dark Skins and the City” in Small Voices and Great Trumpets,ed. Bernard Rubin (New York: Praeger), p141
5 - Dennis M. okawa, From japs to Japanese, (Berkeley : Publishing Corporation, 1971), p18
6 - Richard Taylor : Film propaganda, (london : Croom Helm, 1979), p190

7 - ألبرت فالتون: السينما آلة وفن، ترجمة صلاح عز الدين وفؤاد كامل، مكتبة مصر، 1958، ص7.

مجلة فكر الثقافية