بقلم: محمد اشويكة.
إن تأمل فعل التحكيم في المهرجانات العالمية يرمينا في متاهة من التداخلات الدلالية التي تجعل مفهومها ملتبسا وجامعا لعدد كبير من التناقضات، فالتحكيم يفيد الحُكم والسيطرة والسلطة والتحكم والقيادة والإدارة والجزم والزعامة، وهي مجالات تتطلب الحصافة والرزانة والخبرة والاتزان والفطنة واليقظة وما سواها.
وتختلف الرهانات التي يعقدها المنظمون على اللجان من مهرجان إلى آخر، إلاّ أن الهاجس الظاهر والأهم يتمثل في أن إشعاع الأعضاء يسهم في الترويج للمهرجان ويضمن مصداقيته وجديته كما يوضح استراتيجيته.
معايير أيديولوجية
تظل الرهانات واحدة سواء في المغرب أم في غيره من الدول، إلاّ أن المشرفين على المهرجانات والتظاهرات، وخاصة مدراءها الفنيين، يلعبون دورا حاسما في جلب الأسماء المتميزة ضمن تشكيلة اللجنة التي تعكس بالضرورة ثقافة واطلاع أصحاب المهرجان، فيكفي أن تعرف الأسماء لتستقرئ البقية.
وبما أن المغرب بلد المهرجانات والتظاهرات والملتقيات السينمائية، فإن بعض الأمور قد باتت تحتاج إلى مراجعة جذرية بالنظر إلى تفاوت خبرات المنظمين، وعدم قدرة بعض المدراء على استقطاب الأسماء الوازنة في الداخل والخارج، ومركزة كل الأدوار في يد رؤساء المهرجانات الذين يجولون بفضل دعم الدولة مهرجانات الشرق والغرب، ولا يجلبون في الأخير، إلاّ نزرا قليلا من الأفلام الجديدة أو الأسماء المهمة، فليست العبرة بالسفر، بل بالظفر بسبق يمنح المهرجان قدرا من الاحترافية، ويحقق له التميز والتفرد.
غالبا ما يخضع اختيار أعضاء لجان التحكيم لمعايير تفسر التوجه الفني والأيديولوجي للمهرجان، فلا يمكن أن تجد تشكيلة من الحكام لا تجمعهم صلات معينة، وإن حصل هذا فالمشكلة تعود إلى المدير الفني أو رئيس المهرجان، وتكشف بالملموس الحلول الترقيعية التي تعلن عن نفسها دونما حاجة إلى الاستفسار حول مبررات الاختيار.
ويحدث أن نرى في المغرب بعض الأشياء الشبيهة بحوادث السير الفظيعة، كأن تجد رئيسا للجنة التحكيم أقل قيمة من الأعضاء، وأن تتساوى الخبرات والعطاءات والتجارب، والأنكى من هذا أن تكون لجنة التحكيم وازنة في مقابل “أفلام” لا يمكن أن تشكل أرضية خصبة للنقاش والتداول.
تختلف جنسيات لجان تحكيم المهرجانات المغربية حسب ميزانية المهرجانات وموضوعاتها، فإن كانت بعض المهرجانات الدولية تحافظ على تمثيلية المغاربة، ولو من باب البروتوكول أو التبعية الثقافية، كما يحدث في مهرجان مراكش، مثلا، أو استدعاء بعض المشاركين فيها بغرض تبادل الخدمات والزيارات والدعوات بطريقة مكشوفة، فإن جل المهرجانات تستعين بخدمات المغاربة بالرغم من أن بعضها تعتبر المشاركة فيها تشريفا، وليست خدمة فنية والتزاما أدبيا يستحق التعويض، خاصة إذا طالت مدة المهرجان.
وقد نلاحظ أن بعض الأجانب من جنسيات غربية وأخرى عربية تستعين بهم بعض المهرجانات لإضفاء طابع الدولية على لجانها، مع العلم أن بعضهم لا يتوفر على خبرة ذات مرجعية في المجال.
غياب الاحترافية
تتباين الروافد الثقافية، والمرجعيات السينمائية، لبعض المشاركين في اللجان من المغاربة، وغيرهم، فلا يعقل أن يحكم من لم يقدم منجزا مرجعيا في مجاله على الآخرين، لأن عملية تقييم الأفلام تتطلب مهارات وخبرات وكفاءات تجمع بين الفني والتقني والأدبي والعلمي والأكاديمي، وهي ليست عفوية أو تلقائية، لأن المُحَكِّم سيتساوى مع الجمهور العادي، وسيكرس منطق الارتجال على حساب النظام، والهواية ضدا على الاحترافية. فقد صار من المعروف أن بعض المهرجانات التي تشرف عليها الإدارة بشكل مباشر تملأ اللجنة بالأسماء، وتخلق التناقض كي تتحكم في الجميع وتعلن عن الجوائز التي تريد إلى درجة أن جوائز المهرجان الوطني للفيلم لم تعد لغالبيتها أي قيمة تذكر.
وترجع أسباب التحكم في لجان التحكيم إلى ضعف شخصية المشاركين فيها الذين لم يستطيعوا الاستقالة منها، ولم تكن لهم الجرأة على فضح ما يمر داخل الكواليس من ضغوط وانتقامات وإقصاءات، فضلا عن أن بعض مدراء المهرجانات يشكلون لجانا على المقاس كي يتسنى لهم الاستبداد بها، ويطلبون من الأعضاء الموالين لهم منح بعض الجوائز لأصدقائهم أو لأسباب جهوية أو أيديولوجية معينة، وإن حدث أن وجد عضو نزيه فقد يجد نفسه محاصرا داخل دائرة التصويت، والخضوع للأغلبية المُسَيَّرَة التي تسوّق للعبة الديمقراطية واختلاف الاختيارات والأذواق.
تساهم هذه الممارسات التي تتجاوز أخلاقيات التحكيم في تمييع الأدوار المنوطة بلجان التحكيم، وتقوض مصداقية النزهاء والمحترفين، وذوي الذمم النظيفة والعفيفة، فغالبا ما يجهل بعض الأعضاء غير المسؤولين أن اختياراتهم غير الموضوعية تدمر المبدعين الحقيقيين، وتفسد صورة البلد، وتضرب نضال السينمائيين، فقد أضحت الشواهد التقديرية والدروع والتذكارات في متناول الجميع، ولم يتسلم بعض الفائزين قيمة جوائزهم المالية، كما تمت برمجة بعض الأفلام دون علم أصحابها، وتلك ممارسات تجعل الجميع في مهب الريح، وتصيب في مقتل ما راكمته بعض المهرجانات الاحترافية من مصداقية.
يستعصي فهم التهافت على إدراج المسابقات في بعض المهرجانات والملتقيات السينمائية المغربية، فقد تقتضي الأحوال التدرج، والانتقال من درجة إلى أخرى، فلا يمكن أن تصير لكل مهرجان مسابقات، وهو لم يراكم بعد الخبرة والإشعاع الكافيين؛ إذ من المفروض أن يخدم التعدد الجانب الثقافي، ويخدم السينمائيين في وصول أعمالهم إلى الجماهير التي لا تتوفر مدنها على قاعات سينمائية، فالدولة تدعم إنتاج الأفلام لتصل إلى الناس، وتسند المهرجانات لتشكل آلية لإيصال الأعمال السينمائية إلى كل المناطق بالبلاد، وهي مناسبة للتواصل مع مختلف الفاعلين في صناعتها كي تعم الفائدة، وبالتالي يتم الرهان على الجانب الثقافي قبل الزج ببعض الأسماء في لجان تحكيم لا تراعي مسابقاتها أدنى شروط التنافس.
يرتكز اختيار لجان التحكيم على ما يمكن أن يتميز به العضو من مهارات في مجاله، وعلى قدرته على التواصل مع بقية الأفراد الآخرين، وعلى احترامه لأخلاقيات التحكيم والتكتم على أسرار اللجنة، وهي نقاط حساسة لا يدرك البعض قيمتها في مثل هذه المناسبات، فغالبا ما تفقد المسابقات جديتها بسبب تهور وعدم مسؤولية بعض أعضائها الذين يفشون أسرار مداولاتها، ويسربون نتائجها، ولا يحترمون آراء زملائهم الآخرين، مما يتسبب في بعض التطاحنات والملاسنات والخصومات قبل إعلان النتائج، أو مباشرة بعدها.
المصدر: العرب.